رئيس التحريرأميرة عبدالله

سردية الطرح وشاعرية المضمون قراءة في كتاب “الذين قتلوا مي “

سردية الطرح وشاعرية المضمون  قراءة في كتاب “الذين قتلوا مي “

                                                            بقلم / أحمد مصطفى معوض

 

لا أقول نقدية .

إن القراءة الموضوعية في كتاب ( الذين قتلوا مي ) تأليف الباحث والناقد ا/ شعبان يوسف هي الأنسب في التوجه بالكلمة عن هذا الكتاب المهم لا القراءة النقدية وهذا لعدة أسباب أهمها :

ـ أن الكاتب لم يتناول أعمال مي زيادة الأدبية بالمعايير النقدية لأن قضيته من وجهة نظري أعمق من ذلك ولو أنها في نطاق ذلك، وهذا ما سنعرفه من قراءة الكتاب . 

ـ أن نقد الكاتب إنما انصب جُلَ اهتمامه على المعايير الاجتماعية والنفسية في الأوساط الثقافية والأدبية التي أحاطت مي،  وهذا تطرق ذكي ومهم حيث لم يتطرق لهذه الجوانب من تكلموا عن مي زيادة قبل ذلك وبهذا العمق .

ـ تعامل الكاتب مع حياة مي زيادة لا كسيرةٍ ذاتية فقط بل تكلم عن حقبة زمنية كاملة بما كان يحدث فيها من تناقضات بين محبة وبغض في وقتٍ واحد ولنفس الشخصية فكشف عن خلل خطير في واقع الشخصيات الأدبية عبر هذه الحقبة وجاء بمي زيادة نموذجاً سابقاً ونوال السعداوي نموذجاً معاصراً عشناه جميعاً وكأن ما كان مازال باقياً لم يحركه ساكناً وإن اختلفت الشكليات ولكن الماهيات واحدة .

ـ كما أن الكاتب أطلق على الندوة الخاصة بالكتاب ( مناقشة ) وهذا منحى مناسب جداً لكي تكون القراءة موضوعية في حيز النقاش وطرح الأراء عبر سيرة حياتية أدبية هامة ومؤثرة.

لذلك فقد تطرقت بهذه القراءة للجانب الموضوعي لا الجانب النقدي حيث متعة قراءة الكتاب والاستفادة من عناصره البارزة .

موقف مع الكتاب .

عندما سمعت عن كتاب ( الذين قتلوا مي ) جذبني أن كاتبه ا/ شعبان يوسف لما أعرفه عنه من رصانة وإخلاص للقلم والثقافة وصيده للكنوز الأدبية والثقافية الثمينة وبمجرد رؤيته اقتنيته فوراً وكانت الساعة السابعة صباحاً تقريباً، فوجدت الكتاب يقع في 112 صفحة من القطع المتداول بين الوسط والكبير ـ القطع الجائر ـ فما كان مِنِي إلا أن جلست مع الكتاب جلسة امتدت من بدايته وحتى اتممته كاملاً ، وكانت القراءة الأولى ممتعة ومشوقة ، ولكن من الطريف ما حدث معي في نفس اليوم ليلاً حيث كنت مع زميلي في العمل الليلي بمترو الأنفاق الأمين / لطفي عصمت، وكنت مازلت متأثراً بأحداث الكتاب الممتعة فتناقشت مع زميلي عن حياة مي زيادة وكانت المفاجأة .

جرت العادة على أن كل وسط وله اتجاهه وأفكاره ومواضيعه التي يتكلم فيها ولكن ما حدث مع زميلي أدهشني كثيراً حيث وجدته يتكلم معي بعمق عن حياة مي زيادة وعن مواقفها مع مشاهير الأدباء والشعراء وأنها من أصول لبنانية ومدى معاناتها في نهاية حياتها وأنها أجادت ( 9 ) لغات، والحقيقة أنني لم أكن أعلم عن مي زيادة كل هذه المعلومات الدقيقة عن حياتها ولم أكن أستطيع مناقشة زميلي في هذه المفردات الحياتية لمي زيادة لولا أنني قرأت كتاب ( الذين قتلوا مي ) فاستطعت أن أتناقش بتفاعل مع هذه المعلومات الغزيرة وهذا قد وضح لي مدي أهمية هذا البحث القيم عن حياة مي زيادة ببساطة وبعمق وبمعلومات قيمة وشيقة في نفس الوقت.

نظرة شاملة لمحتوى الكتاب .

إن كتاب ( الذين قتلوا مي ) ينقسم إلى ثلاثة أقسام :

القسم الأول : ثلاث مقدمات .

1 ـ كلمة رئيس التحرير :

وهي في الحقيقة لم تعجبني لسرعتها وعدم دقتها وكثرة أخطاء الإملاء بل وعدم دقة المعلومات بها وهذا من أول كلمة فيها للأسف .

2 ـ مقدمة أولى للأستاذ / شعبان يوسف ( مي وأخواتها ) :

وهي المدخل المنطقي والموضوعي لحياة هذه الأديبة والمفكرة العظيمة وما حدث معها ومع غيرها من الكاتبات من تهميش وإيذاء وتعسف مما جعل الكاتب يثور على هذه الأوضاع الغير إنسانية بتأليف كتابه ليبين لنا ما أراد أصحاب المصالح طيه بالكتمان ، ووضح منحى مي زيادة وفكرها التحرري وأنه ( خدمة للمرأة والرجل معاً ، فلا حرية للمرأة دون حرية الرجل ) ص 9

3 ـ المقدمة الأساس : الذين قتلوا ” ميّ ” :

وهذه المقدمة تكاد تكون مقالاً مفصلاً عن حياة مي زيادة ولو اكتفى بها القاريء كنظرة شاملة مختصرة عن حياة مي زيادة لكفته ، وهذه المقدمة على ما أظن هي الأساس الذي بنى عليه الكاتب بحثه القيم وكتابه الرائع، هذا إن كان قد أتم كتابتها قبل تأليف الكتاب، وإن كان قد كتبها بعد تأليف الكتاب فقد لخص واختصر فيها ما جاء في مضمون الكتاب وبذلك تكون المقدمة مركزة وقوية وشاملة في آن واحد .

القسم الثاني : المواقف والأحداث عبر حياة مي .    

حيث تظهر ملامح حياة مي زيادة وما بها من رحلة فكرية وأدبية كبيرة ، وتسير الأحداث متلاحقة متنامية مع مي ومن عرفتهم ومن كانوا حولها من كبار الأدباء والنقاد والمفكرين ومن أحبوها وأبغضوها في آن واحد ، بل وكشف غيرتهم من نجاحها وأفكارها وشجاعتها ، ومن الغريب أن بعض ممن أحبها قد غار من أنوثتها وطعن في قدراتها الإبداعية، وهو شيء عجيب بالفعل قد وضحه الكاتب ا/ شعبان يوسف على خير وجه عبر المواقف والأماكن والأشخاص والمقالات ، كما بين لنا حبها الوحيد وكيف تأثرت بشخص فريد وكبير الشأن في الأوساط الأدبية مع أنها لم تلتق به قط ، فكان حبها أيضاً مختلف وعظيم ، ثم وضح أن كل هذه الأحداث والمواقف والأشخاص قد أثرت على حياة مي زيادة شخصياً وفكرياً ونفسياً بل ومصيرياً.

القسم الثالث : الخاتمة القوية بإمرأة قوية .

النهاية المدهشة لهذا الكتاب المشوق جائت مع حياة شخصية استثنائية  وقوية عبر جوانب إنسانية لم نعرفها من قبل عن حياة الكاتبة نوال السعداوي مع إظهار أوجه التشابه والتقارب بين حياتها وحياة مي زيادة على المستوى الأدبي والفكري بل والاجتماعي والنفسي أيضاً ، لكن نوال السعداوي لم تترك نفسها باستسلام للأحداث مثلما فعلت مي زيادة بل قاومت واختارت وصرخت قائلة :

( لا أرى نفسي جريئة .. لكن العالم جبان )

 

سردية الطرح وشاعرية المضمون .

ـ لقد نظر ا/ شعبان يوسف لحياة مي زيادة نظرة إنسانية فكرية مسلسلة أثبت فيها وجهة نظره بالدليل تلو الأخر وعبر شخصية تلو الأخرى وكأنه يكتب رواية متصاعدة الأحداث حتى وصل إلى الذروة ، لكنه جعل النهاية ذات أحداث مفتوحة حيث أن ما حدث مع مي زيادة قد حدث مع الكثيرات من الأديبات في جيلها وما تلاه حتى وصل بنا في تصاعد مشوق للأحداث إلى أيامنا هذه والتي يتشدق فيها الكثيرون بالكلام عن حرية الاتجاه والفكر والمعتقد ولكنهم لا يفعلون ما يقولون، فجائت صرخة نوال السعداوي لتنادي بتفعيل الحرية وعدم تقييدها بل وتنميتها وإطلاقها للجميع وهذه الصرخة أستمرت في حياة نوال السعداوي طيلة مسيرتها وبقيت بعد مماتها تحث على نفس المباديء والاتجاه.

وكما ذكرت فيما سبق أن هذه هموم تعانيها الكاتبات من تهميش وإبعاد وإيذاء فكري ونفسي واجتماعي ، وهذه الهموم قد تسللت من أرواحهن إلى أرواحنا جميعاً فأصبح الجميع  رجالاً ونساءً ، أدبياً وفكرياً واجتماعياً عرضة للتهميش والإبعاد المقصود ، وعدم الأخذ في الاعتبار حرية الاتجاه والفكر والمعتقد ، وتبقى للأسف التابوهات المنغلقة والرجعية هي المعيار الظالم الذي يمنع المواهب الحقيقية من الظهور والخروج من ظلام الجهل والأدراج إلى أنوار العلم والنشر والمعرفة . 

ـ ومن ينعم النظر في الكتاب يجد أنه قد كتب بروحٍ شاعرة حيث وضعت المفردات في أماكنها بدقة مع مراعاة حال المُخَاطَب ، فجاء الكتاب سلساً موضوعياً شيقاً يتناسب مع كافة القراء ومع اختلاف ثقافتهم واتجاهاتهم الفكرية ، كما تعامل وجدانياً مع حياة كل من مي زيادة ونوال السعداوي فأبرز بشاعرية مالم يبرزه غيره ممن تطرقوا للكتابة عن مي زيادة أو نوال السعداوي ، بل وقدم لمحات وجدانية عن الشخصيات الذين تعاملوا مع الكاتبتان موضحاً ما بداخلهم من محبة أنانية قاتلة وإن لم تقتل بالمعنى الحرفي للكلمة فقد قتلت معاني كثيرة للحب والحرية والإبداع .

ـ كما أن هذه الروح الشاعرية جعلت من الكتاب بالرغم من سرده المتصاعد الشيق القريب من الشكل الروائي ـ وإن كان نقدياً ـ يسير برتم منتظم مشوق فيجعل المضمون كالقصيدة التي تقرأ مرة واحدة باستمتاعٍ كبير وهذا من محاسن أسلوب الكاتب وسلاسة طرحه العميق .

الخاتمة : 

 إن الأستاذ شعبان يوسف قدم دراسة موجزة لكنها ملمة بمفردات حياة الأديبة المفكرة مي زيادة وبمضمون رسالتها الحياتية والإبداعية ، وبعدما قرأت كتابه ( الذين قتلوا مي ) فقد شاهدت أكثر من فيلم وثائقي وقرأت العديد من الأراء والمقالات التي قيلت وكتبت عن مي زيادة فما وجدت ـ بلا مجاملة ـ أشمل من هذه الدراسة ، حيث لم يتطرق أحد ممن قرأت أو سمعت لهم لهذه الحياة وما فيها من علاقات بهذا التعايش النفسي والثقافي والاجتماعي مع هذه الأديبة ولمن ساهموا في تهميشها وهو قتلها المعنوي الذي أدى بها في النهاية إلى الموت كمداً وقهراً دون إنصاف أو إعطاء القدر الذي تستحقه من مكانة أدبية وفكرية رفيعة المستوى . 

عودٌ على بدء : ( فلاش باك موضوعي ) .

ـ إن براعة الاستهلال وهي من المفردات البلاغية الهامة قد ظهرت مع عنوان الكتاب المشوق والجذاب الذي يجعل القاريء مهتم عبر أحداثه وشخصياته للوصول إلى الحقيقة وماهيتها والتي تتمثل في عنوان الكتاب ( الذين قتلوا مي ) فمن هم الذين فعلوا ذلك وكيف ؟؟ تلك هي المسألة .

مما لفت نظري وأفادني في حياة مي زيادة :

 

ـ مكتوب على قبر مي زيادة وجبران خليل جبران :

نُحت على قبر الأديبة ميّ زيادة شاهدًا مؤثرًا جاء عاكسًا لوحدةٍ وغربةٍ شديدتين عانتهما في أواخر حياتها برحيل أحبابها واحدًا تلو الآخر، والدها، فجُبران، فوالدتها، فكُتب عليه «هذا قبرُ فتاةٍ لم يرَ الناس منها غير اللُطف والبسمات، وفي قلبها الآلام والغصّات، قد عاشت وأحبت وتعذبت وجاهدت، ثُم قضت.، بينما نُحت على قبر الشاعر والأديب جُبران خليل جُبران الذي سبقها إلى الرفيق الأعلى بسنواتٍ عشرة  «أنا حيٌّ مثلك، وأنا واقف إلى جانبك، فاغمض عينيك والتفت؛ تراني أمامك».  

” نقلاً عن جريدة المصري اليوم لايت الالكترونية “

ـ المصالح الشخصية دائماً تقضي على الحياة الإبداعية :

للأسف إن المصالح الشخصية هي الشأن الغالب على تفكير الإنسان وفي قصة حياة مي زيادة عندما ذهبت بعد وفاة أبيها وأمها وحبيبها إلى أهلها في لبنان لكي يحتووها ويضمدوا جراحها فلم يراعوها كأبنة لهم ولا كأديبة شهيرة وقيمة إبداعية لا تقدر بثمن بل عاملوها كسلعة يستطيعون أن يكسبوا المال من خلالها، وضحوا بقيمتها وشهرتها في سبيل حصولهم على أموالها وتركتها . 

 

ـ العشق أقوى من أي شيء .

القلب لا يستطيع أن يقاوم العشق والحب مهما كان صاحبه مثقف أو مفكر أو حتى سياسي كبير فالكل ضعيفٌ أمام من يحب حتى العمالقة ممن كانت تهتز لأقلامهم قلوب وعقول الناس أحبوا مي زيادة وتمنوا لو أحبتهم ، أما مي فأحبت وأخلصت في حبها مع من لم تلتق به قط ، وهو شاعر المهجر العظيم جبران خليل جبران ، وحزنت لموته وفراقه وكان سبباً عظيماً لتدهور حالتها النفسية والحياتية .

ـ وصف مي لنفسها .

 عندما طلبت إحدى صديقات مي صورة منها لتحتفظ بها فقالت لها مي :

” أصحيح أنك لم تهتدي إلى صورتي إذن فها هي .. استحتضري .. فتاة سمراء كالبن أو كالتمر هندي كما يقول الشعراء أو كالمسك كما يقول متيم العامرية ، وَضَعِي عليَّ سديمياً .. فليسمح لي البلاغيون بهذا التعبير المتناقض من وجدٍ وشوق ، وذهول وجوع فكري لا يكتفِ ، وعطش روحي لا يرتوي .. يرافق هؤلاء جميعاً استعداد كبير للطرب والسرور واستعداد أكبر للشجن والألم وهذا هو الغالب دوماً .. بعد هذا اطلقي على هذا المجموع اسم مي زيادة ” 

عن الإعلامي محمود سعد نقلا من رسائل مي زيادة ، برنامج باب الخلق 15 أكتوبر 2021

ـ الرواية التي أنقذت كاتبها من الموت :

واسيني الأعرج الكاتب الجزائري المعروف كان يبحث عن مخطوطة نادرة كتبتها مي زيادة وهي داخل مصحة ( العصفورية ) للأمراض النفسية تسمى ( ليالي العصفورية ) ، ولم يجدها قط في أي مكان حتي علم بوجود نسخة منها في باريس فذهب لكي يقتنيها أو يأخذ منها صورة ثم لم يجدها وبعدما قرر العودة وحجز تذكرة الطائرة اتصل به صديق له ودله على مكان به المخطوطة في باريس قبل أن يركب الطائرة فترك رحلته وسفره وذهب لاقتناء المخطوطة وإذ بالطائرة تتحطم ويموت كل من عليها ما عدا هو فقط ، وبعدما ظفر بالمخطوطة ، كان هو الناجي الوحيد من الموت وكتب لنا رائعته ( ليالي إيزيس كوبيا ) . 

 

مختتم :

وفي نهاية القراءة أذكر حكمة من تأملات الصباح والمساء للشاعر الأستاذ / فؤاد حجاج :

” ولا شيء يعطر حياتنا .. ويمد في مداها .. غير سيرة عاشت لنا .. أكتر صاحبها ما عاش “

لقد توفت مي زيادة ولكنها تركت لنا سيرة عظيمة وقيمة نتدارسها ونتعلم منها دائماً.

هذا وأشكر الشاعر  والكاتب الكبير الأستاذ / شعبان يوسف على هذه الدراسة القيمة عبر كتابه ( الذين قتلوا مي ) التي أمتعتني كثيراً وتعلمت منها دروساً هامة ورائعة .

شارك برأيك وأضف تعليق

أحدث التعليقات

    2024 ©