رئيس التحريرأميرة عبدالله

بهـــدوء… من ذاكرة التاريخ

بهـــدوء… من ذاكرة التاريخ

القيادي العمالي صلاح الانصاري يكتب :أمين عز الدين مؤرخ الحركة النقابية المصرية

اسمه الكامل‏:‏ أمين عز الدين علي دحروج‏,‏ من أبناء ميت ياعيش مركز ميت غمر دقهلية‏,‏ ولد في‏1921/12/8,‏ تخرج في كلية الآداب جامعة فؤاد الأول‏(‏ القاهرة‏)‏ قسم فلسفة‏1945

وهي السنة التي انتهت فيها الحرب العالمية الثانية‏,‏ بما خلفته من تدهور في الأخلاق‏,‏ وازدياد البطالة‏,‏ وارتفاع الأسعار‏,‏ وما صاحب ذلك من آمال عريضة لدي الطبقات العاملة في أن تتحسن الأحوال وأن يتولي زمام الأمر في مصر حكم وطني يستطيع النهوض بها‏,‏ وانتشالها مما تعاني من أزمات‏.‏وبدأ أمين يبحث عن عمل يتفق مع اتجاهاته وشخصيته‏.

التحق بمصلحة العمل عام‏1948,‏ وكانت مصلحة تتبع وزارة الشئون الاجتماعية‏,‏ وكان أول ما قابله هو وأقرانه عند بدء عمله وجود أعداد كبيرة من المصريين الذين استغنت عنهم القوات البريطانية بعد انتهاء الحرب‏,‏ والذين وصل عددهم إلي‏223200‏ عامل انضموا إلي جيش العاطلين‏,‏ وكانت قد شكلت لجان لتسجيل هؤلاء العاطلين والسعي إلي ترشيحهم لأعمال مناسبة‏,‏ وشارك أمين في هذا العمل‏,‏ وأظهر نشاطا وحماسا منقطع النظير‏,‏ الأمر الذي لفت إليه الأنظار‏,‏ فاختاره الدكتور حسن إسماعيل مدير عام المصلحة سكرتيرا فنيا له‏.‏ومن حسن حظه‏,‏ ولذكائه وحبه للدراسة والبحث‏,‏ حصل علي منحة لدراسة شئون العمل والعمال في بريطانيا‏,‏ حيث أمضي ثلاث سنوات يتزود بالعلم والمعرفة‏,‏ وقد استفاد كثيرا من فترة اقامته في بريطانيا‏,‏ فقد أتاحت له التمكن من اللغة الانجليزية‏,‏ فضلا عن الوقوف عن كثب علي أحوال العمل والنقابات في دولة كانت مهد الحركة العمالية‏.‏ وعندما عاد إلي مصر‏,‏ وجد مجموعة من قادة الحركة العمالية المصرية آنذاك‏,‏ وعلي رأسها فتحي كامل رئيس نقابة عمال الشركة الشرقية للدخان والسجاير بالجيزة‏(‏ وعضو المجلس الاستشاري الأعلي للعمل‏)‏ تسعي إلي إنشاء اتحاد عام للعمال‏,‏ ينظم صفوفها‏,‏ ويجمع شملها‏,‏ ويدافع عن مصالحها‏,‏ وكانت بعض الدوائر تقف بالمرصاد أمام هذا المسعي‏,‏ وتعمل علي إجهاضه‏,‏ وأراد فتحي كامل أن يسير في الاتجاه الصحيح‏,‏ ويبتعد عن الوقوع في الزلل‏,‏ أو إثارة الشبهات‏,‏ فكتب إلي مدير عام مصلحة العمل راجيا الموافقة علي عقد جمعية تأسيسيه لتكوين اتحاد عام للعمال‏,‏ وجرت اتصالات متواصلة بين العمال ومصلحة العمل بصفتها الجهاز الحكومي المختص‏,‏ أدت إلي ايجاد علاقات اتسمت بالمودة بين فتحي كامل وبين السكرتير الفني لرئيس المصلحة وهو أمين عز الدين‏.‏ وكانت هذه هي البداية التي فتحت أبواب علاقات ود حميمة بين أمين وبين الحركة العمالية ورجالاتها‏,‏ وكان من علامات تدعيم هذه العلاقة‏,‏ ونمو الثقة المتبادلة‏,‏ أن فتحي كامل وزملاءه النقابيين أسندوا إلي أمين عز الدين مهمة إعداد مشروع لائحة الاتحاد‏.‏ وجاءت حكومة الوفد إلي الحكم في‏12‏ يناير‏1950‏ وتحت الضغط الشعبي المطالب بالاستقلال وطرد القوات الأجنبية من القاعدة البريطانية في منطقة القنال‏,‏ أعلن رئيس الحزب مصطفي النحاس في‏8‏ أكتوبر‏1951‏ إلغاء معاهدة‏1936‏ من جانب مصر‏,‏ وهي المعاهدة التي كانت تسمح لقوات الاحتلال البريطاني بالبقاء في مصر وإنشاء قاعدة لها في منطقة القنال‏,‏ وترتب علي هذا الإعلان خروج جماعي تلقائي للعمال المصريين المشتغلين بالمعسكرات البريطانية في منطقة القنال‏,‏ ومرة أخري قامت مصلحة العمل بتسجيلهم والبحث عن أعمال لهم‏.‏ وكانت محاولات العمال لتأسيس اتحاد عام للعمال مازالت مستمرة‏,‏ وبعد محاولات مضنية نجحت في الحصول علي موافقة مصلحة العمل علي ذلك‏,‏ وتحدد يوم‏27‏ يناير‏1952‏ موعدا لعقد المؤتمر التأسيسي‏,‏ ولكن جاءت الرياح بما لا يشتهي السفن‏.‏ ففي يوم‏1952/1/25‏ وقعت معركة الإسماعيلية بينالشرطة المصرية والجيش الانجليزي وفي‏26‏ يناير‏1952‏ وقع حريق القاهرة‏,‏ ولم يكن من الميسور ـ والحال كذلك ـ عقد المؤتمر التأسيسي يوم‏27‏ يناير في هذا الجو المتوتر‏.‏ وفي كل هذه الخطوات والإجراءات كان من بين العاملين في مصلحة العمل اثنان يؤمنان بالحرية النقابية والسلام الصناعي (والسلام الصناعى هو الأمن والاستقرار داخل المصنع‏عن طريق الاتفاقيات الجماعية بين طرفي الانتاج‏,‏ والتي تتم بواسطة نظام ناجح للمفاوضة والتوفيق والتحكيم‏. ) والمباديء الاشتراكية‏,‏ ويتعاطفان مع العمال‏,‏ ويعملان علي تعبيد الطرق وتذليل الصعاب‏,‏ ومساعدة الحركة العمالية للوصول إلي غاياتها وتحقيق مطالبها‏,‏ هما‏:‏ عبدالمغني سعيد سلامة وأمين عز الدين دحروج‏.‏ وقامت الثورة في‏23‏ يوليو‏1952,‏ ومرت العلاقات بين حركة الجيش وقادة العمال بحالات جذب وشد‏,‏ بين صعود وهبوط‏,‏ تتسم بالمودة حينا وبالجفاء أحيانا‏.‏ ووصلت العلاقات إلي توتر شديد بعد إضراب كفر الدوار الذي انتهي إلي إعدام اثنين من العمال‏.‏ وقد أثمرت الاتصالات واللقاءات بعد تلك الأحداث‏,‏ وأدت إلي تشكيل لجنة برئاسة الدكتور محمد فؤاد جلال وزير الشئون الاجتماعية‏(‏ ومن بعده الدكتور عباس عمار‏)‏ وعضوية ممثلين من أطراف العمل الثلاثة‏(‏ الحكومة والعمال وأصحاب الأعمال‏)‏ للنظر في مراجعة قوانين العمل الأساسية وتعديلها في ضوء كثير من المطالب العمالية‏,‏ وأسفرت مناقشات اللجنة عن إصدار قوانين العمل الثلاثة في ديسمبر‏1952,‏ وهي القوانين أرقام‏:317‏ بشأن عقد العمل الفردي‏,318‏ بشأن التوفيق والتحكيم‏,319‏ بشأن نقابات العمال‏,‏ والتي أعطت مزايا جديدة للعمال‏,‏ ونصت علي جواز تأسيس اتحاد عام للعمال‏.‏ وقام أمين عز الدين بدور أساسي في تزويد اللجنة ـ خاصة الجانب العمالي ـ بما تحتاج إليه من بيانات‏,‏ وتقديم مايتراءي له من اقتراحات‏,‏ كما كانت بصمات عبدالمغني سعيد واضحة فيما توصلت إليه اللجنة من نتائج‏.‏ بعد صدور هذه القوانين بدأت الحركة العمالية تعيد تنظيم صفوفها‏,‏ وتعاود مسيرتها ونشاطها‏,‏ وتتطلع إلي تأسيس اتحاد عام للعمال وهي أكثر حماسا وإصرارا‏.‏ وهذا في الوقت الذي قامت فيه حركة الجيش ـ من بين ما قامت به ـ بحل الاحزاب‏.‏ ورغبة في ملء الفراغ بعد حل الأحزاب أنشأت حركة الجيش هيئة التحرير وتولي شئون العمال في الهيئة مكتب للعمال يشرف عليه الصاغ أحمد عبدالله طعيمة‏..‏ الذي بدأ يباشر الكثيرمن اختاصات مصلحة العمل‏..‏ وترتب علي ذلك أن ترك أمين عز الدين مكانه‏,‏ وأصبح مديرا لإدارة جديدة هي إدارة التوجيه والتثقيف النقابي‏,‏ فتعززت علاقاته أكثر فأكثر بالقيادات النقابية علي مختلف المستويات‏,‏ كما قام بتنظيم دورات تثقيفية للقيادات العمالية وإلقاء محاضرات بها‏,‏ ومن خلال هذا العمل نادي بضرورة الاستجابة للمطلب العمالي في إنشاء المؤسسة الثقافية العمالية ـ كما هو حادث في الدول المتقدمة ـ بديلا عن الدورات التي تنظمها مصلحة العمل‏.‏ وقد تأسست هذه المؤسسة في وقت لاحق‏,‏ وأصبح أمين مديرا لها‏.‏ وظهر من قادة النقابات علي الساحة وقتها (محمد محمد العقيلي وشهرته كامل العقيلي‏رئيس نقابة سائقي سيارات الأجرة في القاهرة‏)‏ وكذا الصاوي أحمد (الصاوي‏رئيس نقابة عمال النقل المشترك‏)‏ وانضم هذان إلي القيادات الأخري‏,‏ وأخذوا يجرون الاتصالات لعقد الجمعية التأسيسية للاتحاد العام‏,‏ بعد أن سمح لهم قانون النقابات الجديد بذلك‏,‏ إلا ان القيادة السياسية الرسمية التي كان يمثلها آنذاك اليوزباشي محمد وفاء حجازي كانت تدعو إلي التريث‏,‏ وتتخذ موقفا حذرا من قيام اتحاد عام للعمال‏,‏ فقد كانت تريد التأكد من اتجاهات العمال‏,‏ وترغب في أن تكون قيادات الاتحاد من شخصيات موالية لها‏.‏ من هنا تشكل في أواخر عام‏1953‏ ما سمي بـ المؤتمر الدائم لنقابات عمال مصر برئاسة فتحي كامل وعضوية الأسماء التي سبق ذكرها‏,‏ وذلك كخطوة تحضيرية لقيام الاتحاد العام للعمال بعد ذلك‏.‏وبفضل جهود العمال‏,‏ وتجاوب نظام الحكم القائم‏,‏ تحقق للعمال أمل طالما كانت أنفسهم تهفو إليه‏,‏ وتتمني تحقيقه‏,‏ عندما صدر القانون رقم‏419‏ لسنة‏1954‏ بإنشاء صندوق للتأمين والادخار للعمال‏.‏ عند هذا تنفس أمين عز الدين الصعداء‏,‏ وشعر بأن مساعيه في سبيل تحقيق المطالب الأساسية للعمال قد تكللت بالنجاح‏,‏ وبدا قانعا راضيا بما تحقق للطبقة العاملة من مكاسب‏,‏ ومن انطلاقها حرة من براثن الاستغلال‏,‏ وقبل عرضا للسفر إلي الكويت‏,‏ حيث أمضي هناك ثلاث سنوات‏,‏ تمكن فيها من إنشاء إدارة للشئون الاجتماعية والعمل ـ لأول مرة ـ في دولة الكويت‏,‏ وفي فترة غيابه‏,‏ كان المؤتمر التأسيسي لاتحاد العمال العرب قد انعقد في دمشق يوم‏24‏ مارس‏1956,‏ واختير فتحي كامل أمينا عاما له‏,‏ واتفق علي أن تكون القاهرة مقرا للاتحاد‏.‏ كما انعقد المؤتمر التأسيسي الأول للاتحاد العام للعمال ـ بعد جهود متواصلة من القيادات النقابية ـ وتم في‏30‏ يناير‏1957‏ اختيار قادة هذا الاتحاد‏,‏ وهم‏:‏ أنور سلامة رئيسا‏,‏ وأحمد فهيم نائبا للرئيس‏,‏ وكان أنور سلامة رئيسا لنقابة عمال البترول وأحمد فهيم رئيسا لنقابة عمال الغزل والنسيج‏.‏ ولم يتوقف نشاط أمين عز الدين بعد ذلك‏,‏ بل كان شعلة من النشاط‏,‏ يمتليء نشاطا وحماسا وإصرارا‏,‏ فكان كالنهر المتدفق في أيام الفيضان‏,‏ وتفرعت اهتماماته داخليا وخارجيا‏,‏ عماليا وسياسيا‏,‏ وقد أمضي سنوات في بغداد ملحقا عماليا بسفارة مصر‏,‏ ولم يقتصر نشاطه علي الجانب العمالي‏,‏ وإنما كان يهتم بكل ما من شأنه توثيق عري الصداقة بين الثورة المصرية والثورة العراقية بقيادة عبدالسلام عارف‏,‏ وكانت جهوده موضع تقدير من الجانب العراقي‏,‏ إلي أن وقع انقلاب تولي فيه عبدالكريم قاسم السلطة في العراق‏,‏ فاتخذ موقفا غير ودي من الهيئة الدبلوماسية المصرية‏,‏ وشدد عليها الخناق‏,‏ فغادر أمين ـ حينذاك ـ العراق عائدا إلي القاهرة‏.‏ كما أمضي سنة في باريس مستشارا عماليا بالسفارة المصرية‏,‏ وسنة في( طنجةبالمغرب‏)‏ ممثلا لمنظمة العمل العربية هناك‏.‏ أما في الميدان الداخلي ـ فقد كان يعتبر بحق مؤرخ الطبقة العاملة المصرية‏,‏ حيث أصدر عدة كتب مهمة منها‏:‏ شخصيات ومراحل عمالية‏,‏ الوثائق التاريخية للحركة العمالية‏,‏ تاريخ الحركة النقابية لعمال النسيج‏,‏ تاريخ الطبقة العاملة المصرية‏,‏ وفي رأينا أن هذا الكتاب الأخير هو أهم مؤلفاته جميعا‏,‏ لأنه كتاب كبير يقع في أكثر منألف صفحة‏,‏ يسجل كل التفاصيل بدقة متناهية عن تاريخ الطبقة العاملة المصرية منذ نشأتها حتي عام‏1970‏ وعلاوة علي ماسبق أصدر كتابا عن أول داعية للاشتراكية في مصر‏(‏ من وجهة نظره‏)‏ وهو‏:‏ مصطفي المنصور‏,‏ وعلي غير المألوف‏,‏ فإن آخر كتاب قدمه‏,‏ لم يكن تأريخا للحركة العمالية وإنما كان قصة بعنوان الفيلق تدور حول فيلق للعمال المصريين الذين انتزعوا من قراهم عنوة إبان الحرب العالمية الأولي واستخدمهم الانجليز في أعمال لهم‏.‏ وللأسف فإن المجال لا يتسع لعرض فصول هذه القصة‏,‏ وإن كانت قد حظيت بتقريظ وثناء من عدد كبير من الكتاب والمفكرين عند نشرها‏.‏ بعد الاستجابة لطلبه القديم بتأسيس مؤسسة للثقافة العمالية‏(‏ وهو ما كان يتطابق مع مطالب القيادات العمالية‏)‏ فإنه أصبح بعد تأسيسها مديرا عاما لها‏.‏وكانت أعماله في إدارتها تتسم بالدقة والتنظيم المتقن‏,‏ واستطاع استقطاب أفضل العناصر لإلقاء المحاضرات‏,‏ وتمكنت المؤسسة من تخريج أعداد متتالية من النقابيين الواعين بحقوقهم وواجباتهم‏.‏ وعندما تأسس الاتحاد الاشتراكي‏,‏ كان أمين عز الدين هو الساعد الأيمن لعبدالمجيد فريد أمين العاصمة‏,‏ وكان هو المسئول عن التثقيف السياسي بالاتحاد‏,‏ كما كان يتولي الإشراف علي معهد الدراسات الاشتراكية‏,‏ ولعب دورا مهما في تنمية الفكر السياسي للقيادات المنتخبة في مصر‏,‏ والذين يقومون بمسئولية قيادية في وحداتهم‏.‏وكان أمين عز الدين مديرا عاما للعلاقات الدولية بوزارة القوي العاملة‏,‏ وظل في هذا المنصب لسنوات حقق فيها نجاحا كاملا‏,‏ إلي أن رشح في السبعينيات من القرن الماضي مستشارا لمجلس التخطيط القومي بدولة الكويت‏,‏ وهكذا عاد مرة أخري للعمل سنوات في الكويت‏,‏ وظل هناك إلي أن استقرت الأمور‏,‏ واتضحت سياسات مجلس التخطيط‏,‏ ووجدت طريقها إلي التنفيذ‏,‏ عندما عاوده الحنين إلي الوطن‏,‏ وإلي رعاية بناته ‏,‏ وأحيل إلي المعاش في أواخر عام‏1981,‏ فتفرغ للبحث والاستغراق في التفكير وكتابة المصنفات‏,‏ إلي أن توفي يوم‏2001/1/3,‏ وبموته خسرت مصر رائدا عماليا‏,‏ ومؤرخا نقابيا‏,‏ واشتراكيا يسعي إلي نبذ جميع صور الظلم والاستغلال‏.وقد كرمته دار الخدمات النقابية بعد وفاته.

 



شارك برأيك وأضف تعليق

2024 ©