رئيس التحريرأميرة عبدالله

“نهر النيل”.. والمواجهات الحتمية

“نهر النيل”.. والمواجهات الحتمية

بقلم : الدكتور مدحت نافع

هذا المقال تم نشره لأول مرة في ٢١ سبتمبر ٢٠١٩…وإعادة النشر في هذا التوقيت ضروري لانه يواكب الأحداث الحالية


مرت على نهر النيل العظيم سنوات من تاريخنا الحديث كانت مفاصل الصراع خلالها على تأمين مجرى النيل حكراً على دول أوروبا ذات المصالح التجارية والزراعية فى المنطقة. إذا رصدنا محطات أساسية منذ بداية حكم الأسرة العلوية فى مصر فيمكن الوقوف عند تواريخ بعينها حصرها الدكتور “حسن الساعورى” فى معرض مشاركته بندوة الجامعات والعمل الإسلامى فى إفريقيا عام 2004 تحت عنوان “دوامة صراع المياه فى حوض النيل” .
الصراع الذى اشتد أواره بين بريطانيا وفرنسا وألمانيا وبلجيكا وإيطاليا، وامتد حتى نهاية النصف الأول من القرن العشرين، يبدأ عندما استشعر الخديوى اسماعيل الخطر إذا ما فقد السيطرة على منابع النيل، فأرسل حملة قوامها 1700 جندياً من المشاة المصريين والسودانيين لاحتلال المنطقة جنوب السودان فيما عرف بالمديرية الاستوائية وضمها عام 1869 إلى مديريات السودان، ثم استعان عام 1871 بالأوربيين لإدارة إقليم الاستوائية حتى بحيرة فكتوريا. ثم أرسل حملتين عسكريتين إلى الحبشة بين عامى 1874 و 1876 لحماية المصالح المصرية هناك ووقف التعديات الحبشية على الرعايا، وتهديد حركة التجارة فضلاً عن هدف آخر معلن منذ الحملات السابقة مؤداه محاربة تجارة الرقيق.
وقد استتبع ذلك قيام بريطانيا بين عامى 1875 و1876 بتقويض نفوذ مصر فى أوغندا، ثم الإجهاز على ذلك النفوذ تماماً مع بداية التاريخ الأسود للاحتلال البريطانى لمصر الذى بدأ عام 1882، مما أتاح لألمانيا بعد الفراغ الذى صنعه الغياب المصرى إعلان حمايتها لمنطقة شرق أفريقيا والساحل الشرقى الأفريقي. وأقر مؤتمر برلين فى العام نفسه تقسيم أفريقيا بين مناطق النفوذ الأوروبى المختلفة، مع ضمان حرية الملاحة والتجارة للأطراف. وفى 1886 اقتسم البريطانيون والألمان مناطق النفوذ فى شرق أفريقيا باتفاق جانبى. وقد انضم قائد الحامية التركية فى المديرية الاستوائية إلى الألمان عام 1887 بعد قيام الدولة المهدية فى السودان. وهو العام نفسه الذى شهد تحالفاً مصرياً بريطانياً بلجيكياً ضد ألمانيا لإعادة إقليم الاستوائية، مما ترتب عليه اغتيال قائد الحامية التركية وإنهاء النفوذ الألمانى وإعادة الاستوائية تحت العلم المصرى (والحماية البريطانية بالطبع). وبين عامى 1889/90 دخلت فرنسا على خط الصراع على الاستوائية بعد تحالفها مع بلجيكا للتوغّل فى بحر الغزال ضد قوات المهدية. وفى عام 1890 أعلنت بريطانيا أحقيتها فى أوغندا والسودان، وقدّمت بلجيكا -التى خرجت خالية الوفاض من تحالفها السابق مع بريطانيا ومصر للتخلص من السيطرة الألمانية- احتجاجاً شديداً على ذلك. مما قاد إلى مؤتمر بروكسل الذى يعد امتداداً لمؤتمر برلين، وفيه تقسيم جديد لمناطق النفوذ فى أفريقيا أقر سيطرة بريطانيا على كل من مصر والسودان وأوغندا، ومنح كلاً من إيطاليا وبلجيكا نفوذاً على اريتريا والكونغو على الترتيب.
وقد اصطدمت الأطماع الفرنسية بالوجود البلجيكي أعالى النيل حينما حاولت التدخل فى الإقليم عام 1893، وما لبث جيش المهدية فى السودان أن اقتحم الجنوب للسيطرة على كامل الإقليم الاستوائى عام 1894، وفى العام نفسه انتهت مواجهة جديدة بين بريطانيا وبلجيكا على اتفاق يمنح الأخيرة حقاً فى منطقة غرب النيل من بحيرة ألبرت حتى “فشودة”، بالإضافة إلى جزء من مديرية بحر الغزال، وهو ما أثار احتجاج فرنسا بدعم ألمانى على هذا الاتفاق، أعقبه إرسال فرنسا لحملتين نحو النيل من الغرب عبر نهر “الأوبانجى” ومن الحبشة من الشرق بالتعاون مع الامبراطور “منليك” .
عام 1896 بدأت الحملة البريطانية بقيادة “كتشنر” لاسترداد السودان الشمالى، وتحسباً من تعاون مهدوى محتمل مع الحبشة، وقد تحركت إيطاليا من اريتريا لغزو الحبشة (منابع النيل الأزرق) وخسرت المعركة فى “عدوة” مما ترتب عليه خروجها من الإقليم وتسليمها شرق السودان إلى بريطانيا. وعام 1898 أعلنت بريطانيا انتصارها على الحكومة المهدية واحتلت السودان الشمالى بالكامل. وعززت بريطانيا من انفرادها بالإقليم الجنوبى كله بعد هزيمة فرنسا فى مواجهة مع بريطانيا أعلى النيل (حول فشودة) أسفرت عن انسحاب فرنسي مهين.
ثم مرت فترة طويلة من هدوء الصراع نسبياً حول حوض النيل بعد أن خلصت السيطرة عليه لبريطانيا ومصر (منقوصة السيادة) ليتجدد عام 1924 بإنذار بريطانى لمصر أثناء إقامة سد “سنار” بضرورة “موافقة” مصر على قيام لجنة دولية بتوزيع المياه بين مصر والسودان وإلا حق لبريطانيا استخدام ما تشاء من مياه فى السودان. وفى عام 1935 احتلت إيطاليا تحت الحكم الفاشى لموسولينى الحبشة وخططت لمشروعات مختلفة للرى على النيل الأزرق، ولم تخرج إيطاليا من الحبشة إلى بعد هزيمة دول المحور عام 1945 فى الحرب العالمية الثانية.
بالتأكيد هذا السرد التاريخى يسقط مرحلة هامة كان الصراع فيها على منابع النيل مصرياً خالصاً، إذ أدرك محمد على باشا أهمية السيطرة على دول المنابع، وتأمين الحدود الجنوبية وأرسل حملات متعددة قاد اولها ابنه اسماعيل الذى تحرّك زاحفاً على سنار (وسط السودان على الضفة الغربية للنيل الأزرق) ثم اجتاحها عام 1821، ثم قاد محمد بك الدفتردار صهر محمد على حملة على كردفان ودارفور لضم غرب السودان إلى أملاك مصر، واستقرت السيطرة لمصر على مناطق استراتيجية لتأمين مجرى النيل كله طوال فترة حكم محمد على وأبنائه وجانباً من حكم حفيده الخديوي اسماعيل.
طوال فترة الصراع الاوروبى الممتد على منطقة حوض النيل لما فيها من مزايا ملاحية وزراعية وقعت تلك الدول عدداً من الاتفاقيات والبروتوكولات التى نظّمت النفوذ والملاحة وحصص المياه، ومنها على غير ترتيب زمنى بروتوكول روما، واتفاقية لندن الأولى والثانية، والاتفاقية البريطانية الإيطالية، واتفاقية أديس أبابا بين اثيوبيا وبريطانيا (ممثلة لمصر والسودان) وفيها تعهدت اثيوبيا بألا تسمح بأى أعمال على النيل الأزرق او على بحيرة تانا أو على نهر السوباط تعوق تدفق المياه فى النيل وقد بدأت أعمال الإنشاءات فى خزان أسوان بعد تلك الاتفاقية. كذلك تم توقيع الاتفاقية البريطانية المصرية عام 1929 تعهدت فيها بريطانيا بعدم إقامة أعمال للرى أو الكهرباء على النيل أو على روافده او على البحيرات تؤثر فى حجم المياه سواء فى المنسوب أو فى موعد وصولها إلى مصر. وكذلك وقعت مصر وبريطانيا اتفاقية عام 1932 لإنشاء مصر خزان جبل أولياء، مقابل إنشاء بريطانيا خزان “سنار”. وكذلك الاتفاقية البريطانية البلجيكية عام 1934 لتوزيع المياه بين تنجانيقا ورواندا وبوروندى إضافة إلى منع اى طرف من تلك الاطراف بإقامة أية إنشاءات على النيل إلا بعد موافقة الأطراف المعنية الاخرى. ثم كانت الاتفاقية المصرية البريطانية عام 1953 لإنشاء سد أوين على مخرج بحيرة فكتوريا لتوليد الطاقة وتخزين المياه، ثم الاتفاقية الأهم لتقسيم مياه النيل الموقعة فى القاهرة بين مصر والسودان عام 1959 والمكمّلة لاتفاقية عام 1929 حيث اشتملت على الضبط الكامل لمياه النيل الواصلة لكل من مصر والسودان في ظل المتغيرات الجديدة التي ظهرت على الساحة آنذاك وهى الرغبة في إنشاء السد العالى، ومشروعات أعالى النيل لزيادة إيراد النهر وإقامة عدد من الخزانات في أسوان.
وليس خافياً على أحد أن أثيوبيا دولة المنبع للنيل الازرق والذى يغذّى نحو 86% من المياه التى تجرى فى نهر النيل لا تتحمس لاتفاقيتى 1929 و 1959 ولكن الطابع الدولى لنهر النيل، وحدود العلاقة بين دول المنبع ودول المصب واتفاقية اديس أبابا تحتم جميعاً على أثيوبيا احترام حق مصر والسودان فى حصة المياه المعتاد تلقيها، وانتظامها وعدم التأثير فى منسوبها…إلى غير ذلك من التزامات منطقية عادلة التزمت بها القوى العظمى المنتصرة فى الحروب الكبرى تجاه مصر وشعبها، حينما كانت السيادة المصرية منقوصة نسبياً، فليس أقل من أن تحافظ مصر كاملة السيادة على حقها تجاه دول المنبع على اختلاف أهميتها ومكانتها الدولية والإقليمية ! ومهما كانت الدول التى تقف وراءها لتغذية صراع المياه المؤجل بين دول أفريقيا التى تعانى الجفاف.
التاريخ والجغرافيا يعلّماننا أن مصر هبة النيل، وأن صراع المصالح (التجارية فى الأساس) حرّك دول اوروبا للتناحر على النفوذ فى حوض النيل، كما ان مصر لم تفرّط يوماً فى حقوقها المائية، ولو قادت فى سبيل ذلك معارك سياسية عنيفة ضد بريطانيا العظمى نفسها، ومعارك حربية أخرى كان من أهدافها تأمين الحدود الجنوبية وانتظام الملاحة فى النيل. هذا التاريخ يؤكد على أن أزمة نقص المياه إذا ما خلقتها إرادة منفردة لإحدى دول المنبع على دولة المصب الكبرى، فإن ذلك من قبيل “البلطجة” والقرصنة غير المقبولة، وعندها تكون كل البدائل لمواجهة ذلك الخطر مطروحة بل وضرورة حتمية.
هذا المقال تم نشره لأول مرة في ٢١ سبتمبر ٢٠١٩

شارك برأيك وأضف تعليق

أحدث التعليقات

    2024 ©